تداعيات العولمة … محمد عبدالملك
• يتحدث المفكر الأمريكي ياريد دايموند عن ازدياد الهوة الطبقية والمعيشية والاقتصادية التي يعيشها عالمنا المعاصر، المنقسم الى طبقات غنية وأخرى فقيرة. وفي القمة الاقتصادية الأخيرة للدول العشرين التي تتحكم في اقتصاد العالم يتحدث أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن ضرورة وضع منهجية جديدة تتبعها هذه الدول الغنية القادرة، لردم الهوة الطبقية التي وصلت الى حد غير مسبوق في العالم الحديث. وهو يطالب هذه الدول التي تتحكم في الاقتصاد العالمي الى تحمل مسؤولية التردي الذي تسبب فيه نظام العولمة، مهددًا بكارثة بشرية كبيرة، في وقت يواجه فيه العالم أخطار التغيرات المناخية، وتهديدات الحرب النووية. يقترح غوتيريش على الدول الكبار تأسيس نظام أممي مشترك تلتزم به الدول الغنية بإنقاذ الطبقات الضعيفة التي تعاني من تداعيات العولمة وإفرازاتها، وأهمها العجز على مواجهة الأعباء المعيشية المكلفة.
يعتقد أمين عام الأمم المتحدة (وهذا صحيح) أن المشكلة كونية، وبالتالي فالحلول يجب أن تكون مشتركة، وتحديدًا فالدول التي تتحكم في إقتصاد العالم هي المتسببة في المشكلة، وهي القادرة على تكريس نظام جديد للعدالة الاجتماعية في عالم تداخلت فيه المسافات والمصالح. لم ينجُ من هذا الوباء العام (في ظل العولمة) أحد في الدول الصناعية والنامية على حد سواء. ما تحدث عنه غوتيريش لا يبدو جديدًا، فالعولمة كانت مدانة من قبل، مثلها مثل الرأسمالية المدانة قبلها، لكن الجديد في الأمر هو ازدياد حجم هذه المشكلة الاجتماعية، ما قد يؤدي إلى كوارث اقتصادية اجتماعية وإنسانية أكبر.
الاضطرابات الأخيرة في الغرب هي أحد مؤشرات هذا التصاعد. وتظاهرات أصحاب السترات الصفراء في فرنسا لن يكون هو الحدث الوحيد والأخير. على نطاق عالمي واسع يجري الحديث اليوم عن عولمة جديدة عادلة تأخذ بعين الاعتبار مصالح المستضعفين من الطبقات الدنيا والوسطى. والمفارقة هنا أنك تطلب عولمة عادلة من جهة غير عادلة. ونحن نسأل هل تستطيع العولمة (وريثة الرأسمالية وربيبتها) أن تكون أوتصبح عادلة؟ هل يتلاءم ذلك مع طبيعتها وتكوينها القائم على الأرباح وجمع الثروات؟ أليست العولمة هي تنين الرأسمالية؟ أو بوصف آخر أليست هي الرأسمالية في مراحلها المتقدمة؟ يعتقد بعض الكتاب (كما نعتقد) أننا نذهب في هذه الحلول الى الحلم والتمني واليوتوبيا، ففاقد الشيء لا يعطيه. والعولمة هي المتهمة فكيف تصبح قاضيا. لكن هذا لا يمنع أن نبعث تحذيرات لأصحاب العولمة الكبار، إذ أن تفضيلهم المال على البشر سيؤدي الى كارثة إنسانية، تنقلب عليهم، وتتحول الى عاصفة تعصف بكل العالم. الأمر يبدو أكثر تعقيدًا.
لكن ما الذي أثار هذا الموضوع في الوقت الراهن؟ ماذا يجري من حولنا؟ ما الذي يحدث في العالم اليوم، في ظل نظام العولمة واقتصادها العابر للقارات؟ لقد نتج عن ذلك تردي الأوضاع المعيشية لملايين أخرى جديدة في الغرب والشرق. الفوارق الطبقية راحت تتصاعد داخل المجتمعات في البلد الواحد، والعالم إنقسم الى قسمين: العالم الصناعي الغني والعالم النامي الفقير، بالنتيجة يتصاعد الصراع بين الطبقات في المجتمع الواحد، كما يتصاعد الصراع بين الدول على الثروات: الولايات المتحدة والصين من جانب، والولايات المتحدة والدول الغربية من جانب آخر. وسط هذه الأجواء المتنافسة والمتضاربة كيف يتخلق نظام كوني عالمي عادل، وإن كان برعاية ومباركة الأمم المتحدة؟..
المحللون من كل أرجاء العالم المتقدم يحذرون قائلين: إن الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرًا. والفقراء يزحفون من كل القارات الفقيرة الى القارات الغنية. الرئيس الأمريكي يريد جدارًا ضخما يكلف المليارات، لتوقيف زحف الفقراء من القارة الأمريكية الجنوبية. والقارة الأوروبية تغص بزحف ملايين من فقراء أفريقيا وآسيا. وينصح الخبراء في الدول الغنية حل هذه المشكلة داخل البلدان الفقيرة بمساعدة الدول الغنية، حتى لا يحدث هذا الزحف البشري الهائل الى بلدانها. هذا يستدعي تغيير الأنظمة السياسية في البلدان الفقيرة، فهي السبب الرئيسي للكوارث الاجتماعية والاقتصادية.
الليبرالية اليوم تتآكل في الغرب، تحت ضغط العولمة، وهي مهددة بانهيار قادم إن لم تصلح آثار العولمة التي تسبب فيها النظام الرأسمالي. أنطونيو غوتيريش أمين عام الأمم المتحدة يكتب أمنياته على الماء. وهو يعرض خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة 2030 متضمنة مشروع عولمة عادلة مشتركة، لكن الكاتب الأمريكي اللامع يوفال هاراري لا أظنه يتفق مع هذا الرأي فهو يتوقع (أفول النموذج الليبرالي بشكل مؤلم، حين تسيطر التكنولوجيا على كل شيء، وتخسر البشرية فرص عملها، وترتفع البطالة بسرعات صاروخية). ورغم أن الليبرالية بمعية الرأسمالية في أعلى أشكالها، صمدت زهاء قرنين، لكنها الآن مهددة بالتآكل والفشل إن لم تتدارك تداعيات نظامها الرأسمالي .
الايام البحرينية