لماذا السعودية يا كندا؟ … محمد المزيني *
لن أردد عبارات مكررة مثل: «السعودية خط أحمر»، أو «إلا السيادة السعودية»، وغيرها من العبارات المعبرة عن كمّ الغضب الرسمي والشعبي الذي استشرى فوراً في أوصال وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي على خلفية تصريح وزيرة الخارجية الكندية المطالبة بالإفراج عما أسمتهم نشطاء المجتمع المدني الذين تم إيقافهم في المملكة العربية السعودية. هنا لن أستخدم صيغ التعبير المتشنج، ولا ردود الأفعال المبالغ فيها لأثبت مدى حبي لوطني، لذلك لن أزايد على قضية من أساسها محسومة، فالسعودية ليست بحاجة إلى من يشهد لها أو يدفع عنه مطاعن الآخرين، فمواقفها على كل الصعد العربية والعالمية مشهودة وسياساتها الداخلية والخارجية معلومة، فليس هناك ما تستحي منه أو تخافه كي تواريه أو تخفيه، معتمدة في ذلك على مجموعة قيم تتكئ على موقعها الاستراتيجي على الخريطة الجغرافية والسياسية العالمية، وتتكون من عقيدتها الراسخة وعاداتها وتقاليدها الانسانية العميقة، جعلها على مر تاريخها تستوعب المتغيرات العالمية وعمق تأثيرها على محيطها القريب والبعيد، تعاملت معها وفق ما تقتضيه الظروف.
المملكة وقفت أمام كل التحديات والعواصف السياسية والاقتصادية وعينها مفتوحة لكل الحركات والسكنات من أجل حماية أراضيها وتأمين مواطنيها والارتقاء بهم عبر كل الوسائل والمناهج، فكانت الأسرع في نهضتها العمرانية والاقتصادية والصحية والتعليمية والاجتماعية من خلال خططها الخمسية، وهي تدرك تماما بحدسها السياسي المجرب كل ما يحاك لها، لذلك سعت جاهدة لحماية نفسها من خلال المنظمات الدولية وما يصدر عنها من مواثيق واتفاقات، وكل همها أن تظل في منأى عن تدخلات الآخرين في سياساتها وسيادتها، كانت على مر تاريخها تعالج قضاياها بحكمة المتأني السابر لغور الأشياء وفق رؤية واضحة وسياسة حكيمة، ومع ذلك لم تترك في سلام، تظل هدفا لمناوشات الآخرين تحت مظلة أي قضية والهدف طبعا محاولة إثارة الرأي العام الداخلي والخارجي وإحداث شقا يمكن التسلل من خلاله لتدمير وحدة المجتمع السعودي أولاً، وتأليب المجتمعين العربي والإسلامي ضدها ثانياً؛ إما تحت ذريعة التمييز الطائفي وإما تحت طائلة الحريات العامة أو تشكيك العالم الإسلامي بقدرة السعودية عن إدارة الحرمين الشريفين واستبدادها به، تذهب كل تلك المحاولات البائسة أدراج الرياح، ثم لا تجد من يلتفت إليها.
لقد فشل النظام الايراني فشلاً ذريعاً في إحداث فتنة طائفية خلال ما يقرب من 40 سنة، وإن تمكنت من الصغار فقد ثبت عجزها مع الكبار، لذلك فماهي إلا كما يقول الشاعر:
كناطحٍ صخرة يوماً ليوهنها *** فلم يَضِرْها وأوهى قرنَه الوعلُ وسيشهد العالم ذات يوم سقوط نظام ملالي طهران لتنهض على أنقاضها دولة مدنية متوازنة تعمل على رفعة إيران ومواطنيها، في وقت سنرى فيه وطننا بحول الله ينعم في حلة أمن ورفاهية.
اليوم، مع كل التجارب المريرة مع الأصدقاء أو من كنا نراهم أصدقاء ثم أصبحوا ما بين ليلة وضحاها أعداء لن نستغرب أي مفاجأة تأتي من قريب أو صديق، بمثل ما صرحت به وزيرة الخارجية الكندية ومطالبتها بلغة صارمة إخراج الموقوفين من نشطاء المجتمع المدني حالاً من السجن، السؤال: لماذا تستيقظ كندا اليوم وتخاطب المملكة العربية السعودية بهذه اللغة الاستعلائية، في وقت تشهد فيه تحولات نوعية على كل المستويات، وانفتاحا يقبل طرح أي قضية سياسية على طاولة التباحث والجدل، ولن تتوانى السعودية في تقديم كل ما لديها عن أي موقوف لأي منظمة دولية تعنى بحقوق الإنسان؟ هل تخلت كندا عن قضاياها الأهم ومعاناتها الدائمة من جارتها وما تسميه التعديات الأميركية بدءاً من الثقافة والهوية وانتهاءً بالاقتصاد، حتى تتفرغ لقضايا تدخل في سيادة الدول وخصوصياتها؟ كندا ليست بريئة من تبني الخارجين عن ربقة سياسات بلدانهم ومنحهم الجنسية تحت ذريعة الحرية، ونحن نعلم تماما أنها تستخدمهم كغيرها من الدول العظمى في رهاناتها السياسية مع الآخرين لا أكثر، هل تقبل كندا مثلا قبول اللجوء السياسي لأولئك المعذبين المشردين في الأرض ممن لا تنطبق عليهم شروطها المتمثلة في المشاهير في المجتمعات قادة الحكومات وقادة الجيوش والنشطاء السياسيين الذين لا يحتاجون إلى الكثير من الاثباتات، وهنا مربط الفرس؟ المسألة إذا ليست كما قلت بريئة أو ذات طابع إنساني، فهي تستخدمهم كأدوات ضغط على حكوماتهم، أو أنها تفيد منهم استخباراتيا، بتشغيلهم داخل ملف يعمل اللاجؤون إليها من خلاله على ما يحتاجه الكنديون من معلومات، فمن تباركهم كندا لن يذهبوا هناك ليأكلوا الشهد أو يتمرغوا بنعيم الكنديين، بل أمامهم أعباء مسؤوليات يجب أن يقوموا بها، في المرة الأخيرة، وكما يقال «فرقت بنط»، فعوضا أن يتكسب الكنديون ممن تسميهم نشطاء المجتمع المدني، فقد ضحت بكل مكاسبها الاقتصادية من السعودية، وكأن وزيرة الخارجية الكندية قد عميت عن حقيقة مفادها أن آلافاً من المبتعثين السعوديين هم أكبر وأوضح تعبير عن حرص السعودية وعنايتها بتعليم أبنائها، ولهم وسْمهم المعروف في المستشفيات الكندية، إذ يفيد من تخصصاتهم الطبية آلاف من الكنديين، ألم تستوعب وزيرة الخارجية قيمة هؤلاء السعوديين وكيف أغدقت عليهم السعودية ليصلوا إلى هذه المواقع المتقدمة لتسأل عن ثلة من المواطنين الذين تعلقوا بـ«صنارة» الآراء المختلفة ذات الاتجاه المعاكس لتيارات متعددة، والصدام معها نتيجة حتمية لها سلبياتها تحتاج إلى وقت طويل لقبولها أو حتى الاستماع إليها برويّة، فالسعودية ليست كندا ولا حتى إنكلترا، لا تزال لها رؤية وفلسفة مختلفة لكل شيء فما بالك متى تعلق الأمر بما يصدم إيمانها وقناعاتها، لم يعق كل ذلك مسيرة التحديث وفتح نوافذ أخرى على المختلف.
كان الحري بوزيرة الخارجية الكندية التعامل مع القضايا الخارجية الموكلة بها من خلال ديبلوماسية حكيمة النظر بعدسة واسعة إلى طبيعة القضايا ذات الحساسية العالية التي تتعامل معها، خصوصا متى تعلقت بالسيادة والاستقلالية والخصوصية، هل تعتقد وزيرة الخارجية الكندية أن الطلبة السعوديين الذين أبلوا بلاءً حسنا في تعليمهم وعرفتهم المستشفيات الكندية أنهم أطباء مهرة مسلوبي الإرادة والرأي والحرية، بل كاملي الأهلية ولديهم حرية مطلقة للتعبير عن آرائهم، لو فكرت الوزيرة الموقرة مليا واستعانت بمستشاريها لما سجنت نفسها بقضايا جانبية وهمية لا شأن لها بها، ولما تورطت بالتدخل السافر في شؤون الغير.
* كاتب وروائي سعودي.
almoziani@
الحياة