ليست قمة إذا غابت عنها القاهرة والرياض! … سليمان جودة
سوف يكتب التاريخ يوماً، أن المشروع السياسي للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، قد أفسد مشروعه الاقتصادي، وأن رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، قد راح يمضي من وراء إردوغان في ذات الطريق، وأنهما بددا بالسياسة ما حققاه في الاقتصاد، فأفسدا الاثنين معاً، أو أنهما يسعيان في هذا الاتجاه!
وربما لا يزال بعضنا يذكر، كيف كان أداء الرئيس التركي في منصبه كرئيس حكومة في البداية، نموذجاً اقتصادياً تسعى حكومات في المنطقة إلى تقليده، وكيف كان محل إعجاب على المستوى الإداري، عندما كان على رأس مدينة إسطنبول، ثم كيف كان محل إعجاب أيضاً على المستوى الاقتصادي، عندما اجتهد ليدخل ببلاده إلى مجموعة العشرين!
كان ذلك في زمن مضى، فلما دار الزمان دورته، خسر مرشحه في مدينة إسطنبول ذاتها، ولم ينجح في فرض المرشح الخاسر، بن علي يلدريم، عُمدة على رأسها، رغم كل محاولاته اليائسة، ورغم طعنه في الانتخابات، ورغم قبول اللجنة المختصة بإعادتها. ففي المرتين خسر المرشح بن علي يلدريم خسارة واضحة أمام مرشح المعارضة إمام أوغلو، وفي المرتين أرادت المدينة الكبيرة أن تعطي إردوغان درساً كان عليه ألا ينساه، وفي المرتين كان الدرس أن حاكم تركيا الذي يظهر على الناس هذه الأيام، ليس هو العمدة الذي عرفته إسطنبول، وليس هو رئيس الحكومة الذي عرفته أنقرة، فلم يكن من قبل يخلط السياسة المغرضة بالاقتصاد المجرد على هذا النحو الفادح.
كنا نعرف أن حزب العدالة والتنمية، الذي حكم الرجل ويحكم باسمه، رئيساً للحكومة ورئيساً للدولة، حزب إسلامي منفتح على الدنيا والناس، ولم نكن نعرف أن الرجل نفسه سوف يحوله من حزب له هذه الصفة، إلى حزب إخواني يتبنى مشروع جماعة «الإخوان» السياسي، ويسعى به في أنحاء المنطقة وأركانها، ولا يكتفي بأن يكون ذلك في داخل تركيا وضمن حدودها!
لقد اختار إردوغان بكامل إرادته أن يغادر فضاء الإسلام الواسع، إلى دنيا «الإخوان» الضيقة والمنغلقة على نفسها بطبيعتها، واختار أن يبتعد عن هذا الدين بمقاصده العليا السامية، وأن يقترب من التفسير الإخواني الخانق لهذه المقاصد، فكأنه بدأ حياته السياسية العملية مع مطلع هذه الألفية الثالثة، عصفوراً على شجرة تمتد فروعها في السماء، ثم انتهى محصوراً في قفص، يدور دائخاً في داخله، ويتخبط حائراً في جداره، ويتعلق بأعمدته باحثاً عن طريق إلى الخروج دون جدوى.
والذين عاصروا بداياته يفتشون عنه في هذه اللحظة، فلا يكادون يعثرون على شيء مما عرفوه فيه من قبل، وإذا عثروا على شيء، فليس هذا الشيء سوى بقايا حاكم أخذ بلاده إلى سبيل، ليس هو السبيل الذي يمكن أن يقودها إلى أرض مستقرة، ولا هو السبيل الذي يمكن أن يصل بها إلى ما كانت البدايات تؤشر عليه، ولا هو السبيل الذي يؤسس لعلاقات حُسن الجوار في المنطقة!
وهكذا في أقل من عقدين من الزمان، يكتشف الذين كانوا على درجة من الإعجاب بأدائه الاقتصادي في البدايات، أنهم قد انخدعوا فيه إلى حدود بعيدة، وأنهم يقفون أمام رجل ليس هو الذي كان يسوّق لنفسه عند خطوة البداية، وأنه أعطى ذاته لمشروع إخواني هيمن عليه وسيطر، وأنه انقلب من صاحب مشروع اقتصادي تركي يرغب في النهوض ببلاده، إلى شخص ملتزم بمشروع إخواني سياسي لا يريد أن يرى العصر ولا أن يخاطبه.
ولا أحد يعرف منذ متى وقع مهاتير محمد في إغواء إردوغان، ولكن الذي نعرفه أن وجوه الشبه بين الرجلين قريبة، وأن مهاتير كان نموذجاً اقتصادياً آخر على مستواه، وأنه لما تولى رئاسة الحكومة الماليزية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، قد نقل بلاده من دولة زراعية لا تكاد تحقق شيئا في مسيرتها، إلى دولة صناعية ذات اقتصاد يقف على قدمين راسختين.
وجاء عليه وقت قرر فيه ترك رئاسة الحكومة، وكان تقديره وهو يترك رئاستها أنه قضى على رأسها ما يقرب من العقد ونصف العقد من السنوات، وأنه حقق للماليزيين خلالها ما خطط له وأراده، وأن هذه سنوات تكفي في الحكم وزيادة.
وقبل عام تقريباً فوجئ الذين تابعوا مسيرته الحكومية، بأنه يعود من جديد، وبأنه لا يجد في سن الثالثة والتسعين التي بلغها مانعاً من العودة إلى الحكم مرة أخرى. وإذا كانت عودته شأناً يخص مواطنيه، لأنهم هم الذين أعادوه انتخاباً، فما نناقشه مسألة أخرى تتصل بالأعراض الإخوانية التي ظهرت على ملامح وجهه السياسي دون مقدمات تشير أو تقول!
إن شهوراً ما كادت تمر على العودة، حتى اكتشف المهتمون بتجربته الأولى، أن تلك التجربة إذا كانت قد مثلت في وقتها مشروعاً اقتصادياً ماليزياً، فالعودة تمثل في جوهرها مشروعاً سياسياً إخوانياً، أو أقرب ما يكون إلى «الإخوان».
وإلا، فماذا تعني هذه القمة الإسلامية المصغرة التي دعا إليها في العاصمة الماليزية كوالالمبور قبل أيام؟! لقد جرت العادة على أن كل قمة من هذا النوع، إنما تنعقد من خلال منظمة التعاون الإسلامي وعبر أمانتها العامة، فهي المنظمة الأم التي تضم في عضويتها 57 دولة إسلامية، وهي المنظمة التي نشأت لتكون قضايا الأمة مطروحة على طاولة واحدة، لا على أكثر من طاولة، ولا على نصف طاولة، كما جرى في القمة المصغرة التي صارت معروفة بأنها «قمة الضرر» تعبيراً ربما عما ستلحقه بالأمة من ضرر!
لقد غابت عنها مصر وكذلك غابت السعودية، وعندما تنعقد قمة إسلامية، صغيرة كانت أو كبيرة، ثم يغيب بلد الحرمين، وكذلك بلد الأزهر عنها، فليست قمة، ولا هي إسلامية.
وفي مقابل هذا الغياب للبلدين، حضرت تركيا وحضرت قطر وحضرت إيران، وفقط، ولم تحضر باكستان ولا إندونيسيا، أو أن الأخيرة حضرت بتمثيل منخفض للغاية ربما احتجاجاً واعتراضاً.
ويعرف الجميع أن باكستان وإندونيسيا هما البلدان الإسلاميان الأكبر من حيث عدد السكان، فإذا غابا عن قمة إسلامية، فماذا بالضبط سوف يتبقى منها مع الأيام؟!
وكما تشير قطرة الماء الواحدة إلى مذاق البحر، فالدول المشاركة تشير هي الأخرى إلى لون القمة، وطبيعتها، وأهدافها التي انعقدت من أجلها. إنها قمة تلتف على منظمة التعاون الإسلامي ولا تتحرك من خلالها، وتؤسس للانقسام في توقيت لا يحتمل انقساماً ولا يطيق!
هذه قمة انعقدت فقدمت جماعة «الإخوان» على الإسلام، وهذه قمة سعت في طريق «توظيف» جماعة «الإخوان» سياسياً من جانب الدول الحاضرة، وهذه قمة لم تنتبه إلى أن الإسلام أكبر من الجماعة ومن كل جماعة فيه!
الشرق الأوسط