مع المملكة: القابض على عروبته كالقابض على الجمر … رضوان السيد
هبّت عاصفة جديدة من الانتقادات على المملكة العربية السعودية من أدعياء العروبة، وأدعياء الإسلام، لأنّ المملكة أذِنَت بدخول قواتٍ أميركية إلى المملكة لدعم الأمن والاستقرار. وما قال السعوديون أكثر من ذلك، أما الأميركيون فلم يصرحوا بشيء. وأما أنا فتذكرتُ العام 1990 بعد غزو صدام حسين للكويت، ومجيء الأميركيين وغيرهم لتحريرها. لقد فهمتُ من القرار – وأرجو أن أكونَ مخطئاً – أنّ أخطار الحرب الشاملة تتصاعد، رغم تأكيد الطرفين الأميركي والإيراني أنهما لا يريدان الحرب. وحتى بريطانيا التي احتجز الإيرانيون ناقلة نفط لها، استبعدت خيار تحريرها بالقوة، وفكرت في الضغط من طريق الدبلوماسية… والعقوبات. وبدلاً من أن يُظهر الرئيس ترمب حماسة لنصرة حليفته، قال إن على البريطانيين أن يحموا ناقلاتهم بقواتهم! وقد عمدتُ إلى هذا الاستطراد عن المشكلة البريطانية، لأؤكد غير المؤكد وهو عدم نشوب الحرب!
لكنْ ماذا نسمّي ما يجري على أمن المملكة والعرب من سنواتٍ وسنوات؟ نعم، يستبعد الجميع الحرب، ولو تأملنا الوقائع ولا شيء غير، لوجدنا أنّ الحرب مشنونة علينا جميعاً، وعلى رأسنا المملكة، أبرز دول العرب بالمنطقة، ومهد العروبة والإسلام، وحاضنة الحرمين. كنتُ أقول لعراقي يقيم في عمّان، ويعتبر أنّ حرب اليمن المقصود بها استنزاف المملكة، ماذا كان بوسع المملكة أن تفعل، هل تترك الأمور على عواهنها إلى أن يغزو الإيرانيون وذوو التوجه الإيراني مكة؟! ولاحظ الرجل نفاد صبري معه، فتراجع وقال: هل تعرف قضاء النخيب؟ قلت: لا. قال: هو جزءٌ من محافظة النجف ويقع على حدود المملكة، وما كان لأهله أي دور في أحداث أعوام «داعش». لكنّ «الحشد الشعبي» أتى إلى القضاء ومعه «الحرس الثوري» عام 2016 فهجّروا سكانه واستقروا فيه، وجلبوا إليه السلاح الثقيل والصواريخ. وقلت: لماذا نذهب بعيداً ونحن نتحدث في لبنان: هذا نصر الله خطب أول من أمس متعرضاً إلى السعودية كعادته، وأنا أكتب هذه المقالة مساء الثلاثاء (23 – 7 – 2019) وصحف اليوم حافلة بأخبار زيارة وفد «حماس» برئاسة صالح العاروري إلى طهران، وقد «تشرفوا» بمقابلة خامنئي الذي لم يقابلهم منذ العام 2012 وهو يحدّثهم عن تحرير القدس، وهم يبايعونه للدفاع عن الجمهورية الإسلامية بالطريقة التي يحب! كلُّ هذا يحدث، إضافة إلى تفخيخ السفن الأربع في ميناء الفجيرة، والصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة على جازان وعلى أبها، ومن قبل على مكة، ثم يطمئننا الخبراء العسكريون إلى أنّ الحرب لن تقع؟! لقد وقعت الحرب علينا من زمان في العراق وسوريا ولبنان والسعودية والبحرين والكويت واليمن، وكل المغيرين من إيران والميليشيات الطائفية التابعة لها في بلداننا.
قبل أيام خطب نصر الله كعادته مهدداً ومتوعداً السعودية وأميركا وإسرائيل. وأخبر جمهوره (وإسرائيل بالطبع) أنه سحب معظم قواته من سوريا، واستقرت في مواقع على الحدود، لأنه ما عادت هناك حاجة إليها، وعندما يطلبها الأسد من جديد فستعود حتماً. قوات نصر الله انسحبت بالطبع بسبب الغارات الإسرائيلية والطلب الروسي. إنما إلى أين انسحبت؟ إلى قرى ومواقع في الزبداني وداريا والقلمون وإلى القصير، وهي قرى وبلدات هجَّرت ميليشيا الحزب سكانها بعد تجويعٍ وقتل، وأسكنت فيها بشراً من العراق وأفغانستان… الخ. وما سمعتُ عالماً إيرانياً أو عراقياً بارزاً قال شيئاً عن التهجير الطائفي، وعن القتل والتشييع والتهجير للملايين في سوريا والعراق.
إنّ الحرب الإيرانية على العرب، مثل الحرب الإسرائيلية: هي حربٌ قومية، وحربٌ دينية، وحربٌ إحلالية. اليهود يهدمون البيوت ويبنون على أنقاضها بلداتٍ ومُدُناً، والإيرانيون يقتلون الناس ويهجِّرونهم، ويأخذون البلدات جاهزة لسُكنى القادمين المذهبيين الجدد. لقد شكا إلي أُناسٌ من «الجهاد الإسلامي» ومن «حماس» طوال السنوات الماضية، أنه صارت في غزة فرقة شيعية تُعدُّ بالمئات، ومعظمهم زاروا طهران وقم وتعلّموا في المدارس الدينية.
إنّ هذا هو الخطر والواقع الذي تواجهه المملكة على أرضها وحدودها، وفي أنحاء من الجزيرة، وشتى بلدان المشرق العربي. وهي تواجهُ ذلك وحدها تقريباً. وإذا كان الأمل مقطوعاً من القومجيين واليساريين؛ فإنّ الفجيعة في الإسلاميين معتدلهم ومتطرفهم. فهم مع إيران تارة من أجل فلسطين، وطوراً لأن حكوماتهم ضدهم، وطوراً ثالثاً بسبب علاقاتهم مع قطر وتركيا؛ أما علاقاتهم بدينهم وأمتهم فتقع في آخر اعتباراتهم!
ما عاد من الممكن اتخاذ مواقف رمادية. هناك هذا الحصن الصامد الذي ما بقي للعرب غيره. وهو ليس ضعيفاً ولا مشلولاً، فحيث يجد ولو خرم إبرة يمكن التدخل من خلاله لحماية البلدان والأنفس واستعادة الاستقرار، وإيقاف القتل والدمار؛ فإنه لا يتأخر. وبتعبيرٍ آخر: المملكة هي الدولة التي تحمل الدعوة العربية للتضامن والتماسك والدفاع، وهي الجهة التي تحمي ديننا ومقدساتنا، دون أن تدخل في الطائفيات والمذهبيات التي انغمست فيها إيران الإسلامية!
من حق المملكة أن تستخدم كل وسيلة ممكنة للدفاع عن النفس وعن الأمة وعن العرب وعن كلّ ما نُقدّسُ ونحترم. وما وصلت المملكة ولن تصل قومية وديناً إلى «مواصيل» إيران 1985 – 1986 التي تعاونت مع إسرائيل عندما اضطرتها الحربُ لذلك. ويتشاجر الإيرانيون مع الأميركيين الآن، لكن هناك «قواعد اشتباك» يراعيها الطرفان، كما كان نصر الله يفتخر بقواعد اشتباكه مع إسرائيل. لكنّ الإيرانيين وميليشياتهم لا يراعون «قواعد الاشتباك» مع العرب، بل هي حربٌ شاملة تلك التي يشنونها، وأفظع ما فيها أمران: استخدام فئات شعبية عربية في تدمير المجتمعات والدول، واستخدام الدين والمذهب بكثافة ليس مع أميركا وإسرائيل؛ بل معنا نحن العرب والمسلمين.
ما علينا! هذه هي إيران، التي خاطبناها بكل خطابٍ ممكنٍ خلال الأعوام الثلاثين الأخيرة، وقد اعتبرت ذلك كلَّه ضعفاً، وزادت في عدوانها. وقد قال لي باحث إيراني قبل سنوات: الضعيف هو الذي يلجأ إلى المنطق والعقل، أما القوي فلا يعجبه غير الضرب!
ما عاد من الممكن أن يكون المرء نصف عربي ونصف إيراني، أو نصف عربي ونصف إسرائيلي، أو نصف عربي، والنصف الثاني أي شيء آخر.
إنّ الموقف من المملكة ومعها هو الميزان الذي ينبغي أن توزن به أفكارنا وأعمالنا في المجال الوطني والعربي، وهذا هو مقتضى الأمانة والشجاعة والثبات.
الواقف مع عروبته وعربيته في هذا الظرف الصعب، مَثَلُه المَثلُ الذي ذكره رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن المؤمن في المحن التي يكون القابض على دينه فيها كالقابض على الجمر!
الشرق الأوسط
الجمعة – 26 يوليو 2019 مـ