هل الصورة بألف كلمة؟ … د. ياسر عبدالعزيز
لم يخبرنا أحد ما الذي خططت له الفتاة السودانية آلاء صلاح، وما الذي فعلته، قبل أن تصعد فوق سيارة، وسط جموع المتظاهرين في الخرطوم، وتغني فيهم الأشعار الحماسية، بينما توزع اهتمامها على الجميع، وتحثهم وتحمسهم على مواصلة الاحتجاج، في ثوبها التقليدي الأخاذ.
لكن ما بتنا نعرفه جميعاً، أن تلك الفتاة استطاعت أن تسجل «صورة أيقونية خالدة»، قد تظل لسنوات طويلة عامل تفسير وإلهام. لقد نجحت آلاء صلاح في إتمام عمل يصعب جداً أن يحصد النتائج ذاتها، حتى لو تم بواسطة أفضل شركات العلاقات العامة العالمية؛ وهو أمر ربما ساهم في صنعه تحالف اللحظة الفارقة المثيرة مع التلقائية، واندفاع المشاعر الخام.
تعيد آلاء تذكيرنا بأهمية الصورة؛ لكنها تزايد على جميع من تحزبوا لأولوية المشهد على حساب النص، لتخبرنا بأن الصورة ربما تساوي أكثر من آلاف الكلمات.
في عام 1972، التقط مصور أميركي صورة لفتاة من فيتنام، تجري عارية مذعورة، إثر تعرضها لقصف بقنابل النابالم؛ وهي الصورة التي يسود اعتقاد واسع بأنها كانت أحد الأسباب المهمة لإنهاء حرب فيتنام. توضح صورة الفتاة، وتدعى «كيم فوغ»، مدى الأسى الذي تحمَّله الشعب الفيتنامي بسبب تلك الحرب المجنونة بين الشماليين والجنوبيين، والتي تدخلت فيها الولايات المتحدة، على خلفية حربها ضد النفوذ الشيوعي في المنطقة. لقد أثَّرت الصورة في العالم أجمع، وحصل المصور الذي التقطها على جائزة «بوليتزر»، مخلداً اسمه بين أفضل المصورين في العالم، كما أن «كيم» نفسها صارت لاحقاً رمزاً إنسانياً للسلام، وباتت سفيرة للنوايا الحسنة لـ«اليونيسكو».
أما الصورة الخاصة بمحمد الدرة، ذلك الطفل الفلسطيني، الذي أطلقت السلطات الإسرائيلية الرصاص عليه وعلى والده، أثناء انتفاضة الأقصى في عام 2000، فقد حركت بدورها مشاعر كثيرين في العالم أجمع، وأصابت إسرائيل بأضرار كبيرة، وظلت قيداً على الممارسات غير الإنسانية للسلطات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
وكان للصور التي كشفت انتهاكات القوات الأميركية للأسرى العراقيين في سجن «أبو غريب»، في عام 2004، أيضاً تأثير حاسم في إعادة صياغة صورة التدخل الأميركي في العراق. وفي عام 1993، كان المصور الجنوب أفريقي «كيفين كارتر» في رحلة عمل إلى جنوب السودان، الذي كان أطفاله يعانون المجاعة في تلك الأثناء؛ حيث وجد طفلة مريضة هزيلة بسبب نقص التغذية، تعاني في طريقها للوصول إلى مستودع الغذاء، في وقت يقف بجوارها نسر، يرقبها متربصاً، لاختيار الوقت المناسب للانقضاض عليها. لقد التقط «كارتر» تلك الصورة بالفعل، وهي الصورة التي باتت تعرف لاحقاً بصورة «النسر وطفلة المجاعة». ورغم أن المصور انتحر عقب حصوله على جائزة «بوليتزر» عن تلك الصورة، فإن أثرها ظل فعالاً؛ خصوصاً لأنها ألقت الضوء على معاناة أطفال السودان جراء نقص الغذاء. وفي عام 2015، ظهرت صورة جديدة شغلت العالم رغم مأساويتها، وهي الصورة التي أظهرت غرق الطفل الكردي «إيلان» على الساحل التركي، حين كان بصحبة عائلته التي حاولت الهجرة إلى أوروبا بطريقة غير مشروعة.
يعاني الشعب السوري أزمة إنسانية خطيرة، توضحها الإحصائيات؛ لكن الأرقام الجافة، والعبارات الجامدة، لم تصنع تغييراً، ولم تحرك العالم ليتخذ القرارات الصحيحة الكافية لمقاربة تلك الأزمة؛ وهو الأمر الذي ربما نجحت فيه صورة الطفل «إيلان» جزئياً. صورة آلاء استطاعت أن تنفذ إلى الرأي العام العالمي، وأن تحمل وسائل إعلام دولية مرموقة على عرضها، وكتابة القصص المطولة عنها، باعتبارها مشروع «تمثال حرية» جديد. لن يجد الحراك الدائر في السودان راهناً سفيراً أفضل من صورة آلاء؛ إذ تجمعت فيها عناصر الإيحاء المطلوب كافة: زي يعكس الأصالة والانتماء، و«نوع اجتماعي» يفضح التمييز والقمع، وشجاعة تتحدى الطغيان، وفن ينضح إبداعاً، ومهارة تُكذب ذرائع تهافت الأداء العام. ستعرف آلاء أنها باتت «أيقونة»، وستبهرها الأضواء، وسيتكالب عليها كثيرون، ومن بينهم انتهازيون وأصحاب مصالح، وهي – غالباً – ستحب أن تواصل لعب دور، وستحبذ أن يكون بارزاً، وأن يلمع تحت ومضات العدسات… وهنا قد يحدث الإشكال.
لقد وقعت الانتفاضات في العالم العربي، وتتابعت خلالها الصور الأيقونية؛ لكن معظمها للأسف لم يستطع الحفاظ على رمزيته، باستثناء صورة واحدة، أتذكر جيداً أنها كانت لناشط وقف أعزل، بمواجهة مدرعة، وهو ناشط لم يعرف أحد اسمه حتى الآن.
الشرق الأوسط