أثار مسلسل العاصوف جدلا واسعا في المجتمع السعودي بين مؤيد ومعارض لفكرة هذا العمل الفني الذي يرصد تاريخ المملكة في سبعينيات القرن الماضي، والتحولات الاجتماعية والدينية والفكرية التي صاحبتها في تلك المرحلة، حيث يرى المعارضون أن المسلسل يحاول تشويه صورة المجتمع في الماضي، وذلك من خلال تسليط الضوء على بعض السلبيات مثل مشهد الطفل اللقيط، والخيانة الزوجية مما يعتبر ذلك هجوما على القيم والمبادئ والعادات، وبالتالي تشويه صورة المجتمع والنيل من خصوصيته.
أما بالنسبة للمؤيدين للمسلسل فيرون أن لكل مجتمع بشري إيجابياته وسلبياته، والسلبيات التي تناولها المسلسل موجودة في أي مجتمع على مر التاريخ، والبشر ليسوا ملائكة معصومين من الخطأ والآثام، والهجوم على «العاصوف» في رأيهم هو مجرّد تصفية للحسابات القديمة وعدم كشف الحقيقة ومحاولة لإيقافه، لأنه يؤثر في الرأي والمجتمع ويفضح الخطاب المتطرف.
وبغض النظر عن النقد الفني للمسلسل، وكذلك المبررات التي أوردها كل من المعارضين أو المؤيدين لهذا العمل، ويكفي أن أشير إلى وجود إشكالية اجتماعية أثارتها ردود الفعل تجاه مسلسل العاصوف تتمثل في الصورة الذهنية المثالية للتاريخ وللمجتمع في الماضي، والهروب من مواجهة الحقيقة، فالمسلسل أظهر بعض الأسرار الاجتماعية المدفونة، وسلط الضوء على بعض المشاكل الاجتماعية المسكوت عنها، فقد دأب البعض يتخيل «زمن الطيبين» بنظرة طوبائية خالية من العيوب مع تجاهل تام للواقع الاجتماعي الذي كان يعيشه الناس.
للأسف ما زال البعض يغط في سبات عميق، فما زال بعض المؤرخين وبعض أساتذة الجامعات يواجهون القضايا التاريخية والاجتماعية بشعور من الرهبة والفزع، فيتناولون المصطلحات والمفاهيم التاريخية والاجتماعية دون تبصر فيها أو تمعن في مراميها وأبعادها، فعلى سبيل المثال يقول أحد المؤرخين المعاصرين ما نصه «عام (1390) كان المجتمع متصالحا مع مدارسه الفقهية والفكرية، والناس حينها مدينون لإرثهم الاجتماعي، وهم إلى القبول والرضا بالتنوّع أقرب منهم إلى الإقصاء والتفرّق.. كما أنهم إلى مروءاتهم أقرب منهم إلى تحقيق نزواتهم»!
إن هذا اعتراض وجيه، فكل مجتمع بشري له جوانب حميدة، ولكن السؤال الذي يرد في هذا الصدد: هل كان المجتمع خاليا تماما من الفساد وسوء الأخلاق؟ وهل كان المجتمع أقرب إلى جانب الصلاح منه إلى جانب الفساد؟ إن الجواب عن هذه الأسئلة من الصعوبة بمكان، وهو يخضع لوجهات نظر مختلفة، وهذا ما يسميه علماء الاجتماع بـ«التوازن الاجتماعي في المدن»، وعلى هذا الأساس هل لدينا دراسات اجتماعية تبحث في طبيعة التوازن الاجتماعي الذي كان سائدا في عام 1390هـ؟.
بالإضافة إلى ما سبق يقول ذلك المؤرخ إن المجتمع كان متصالحا مع مدارسه الفقهية، وفي هذا الصدد يقول عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي ما نصه «مشكلة أهل المدن أنهم يحترمون المواعظ البليغة، ولكنهم لا يستطيعون اتباع ما فيها من تعاليم ومثل عليا، فهم قد نشؤوا منذ طفولتهم على أخلاق أخرى حسبما توحي به قيمهم المحلية، وهي أخلاق مناقضة تماما لتلك التي تدعو إليها المواعظ الدينية».
ومما سبق يتضح أن ذلك المؤرخ يحاول تصوير المجتمع بصورة مثالية خالية من العيوب والمساوئ، وهو أقرب إلى أسلوب الخطابة منه إلى الموضوعية والمنهج العلمي، وهذا حال كثير من مؤرخينا وعلمائنا وأساتذة الجامعات اليوم للأسف الشديد، الأمر الذي أدى إلى إهمال وتجاهل الكثير من المشاكل الاجتماعية التي يعانيها الناس، وليس هذا وحسب، بل وحتى إنكار تلك المشاكل واعتبارها مجرّد حالات شاذة لا يقاس عليها، وهذا ما يفسر ردود الأفعال المعارضة لمسلسل العاصوف وحتى المؤيدة له، فهي تحاول تأطير المشاكل الاجتماعية بصورة إيجابية كما تشتهي، وهي لا تخرج عن التصور المثالي للمجتمع، وقد ضاعت الحقيقة بين هذين الفريقين.
في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي كانت الأغاني الشعبية، على سبيل المثال، تحكي قصصا غرامية خارجة عن المألوف وعن أعراف وعادات المجتمع، وكما هو معلوم أن الفنون تعكس شيئا من ثقافة وأخلاق المجتمعات، ومع ذلك ما زال البعض يعتبر تلك الأغاني تصورات خيالية للشعراء ليس لها علاقة بالواقع الاجتماعي، والبعض الآخر يرى أن تلك الأغاني هي أغاني السوقة والسفلة «العرابجة» ولا تمثل المجتمع، بينما يرى علماء الاجتماع عكس ذلك تماما، فهم يقولون إن علم الاجتماع «يستمد معلوماته من السوقة ومن السفلة والمجرمين والغوغاء، فهؤلاء بمنابزاتهم ومفاخراتهم، وبتعاونهم وتنازعهم، يمثلون القيم الاجتماعية السائدة أصدق تمثيل».
لقد حرّك مسلسل العاصوف المياه الراكدة، وحرّك الجمود الفكري تجاه المشاكل والقضايا الاجتماعية الغامضة والمجهولة، وينبغي علينا مراجعة ما كنا قد تعلمناه، وتصحيح قضايا تاريخية واجتماعية متوارثة أسيء فهمها عبر الأجيال، ومن واجبنا مواجهة مشاكلنا الاجتماعية بكل شجاعة وشفافية وسلوك النهج العلمي الموضوعي في البحث، فالاعتراف أولا بهذه المشاكل هو بداية الطريق لحلها ومعالجتها.

    الوطن