التقاعد فرصة ذهبية لنعيش من جديد … د. محمد المقرن
التقاعد ليس نهاية الحياة بل هو بداية مرحلة مختلفة من الحياة يجب استغلالها والتمتع بها، وهو واقع لا بد من مواجهته والاستعداد له، لكن للاسف فإن معظم المتقاعدين يفتقد لمفهوم التخطيط والاستفادة من مرحلة التقاعد فتجده يمارس روتيناً يومياً يشعر من خلاله وكأنه يعيش على هامش الحياة. نعم، قد يتخبط الانسان المتقاعد في ملء فراغه ويشعر بالملل والكأبة، لكن الواقع يقول إنه هو من يُقنع نفسة بكل تلك الأوهام والقناعات السلبية، فيعتقد أنه وبوصوله إلى سن التقاعد قد أنهى مهمته في الحياة، وهذا هو لُب المشكلة. إنه لا ينظر إلى التقاعد كمرحلة من مراحل الحياة، ولا يرى فيه فرصة لإنجاز مشروع او ممارسة هواية او الاهتمام بأمور غفل عنها خلال فترة حياته الوظيفية. فالعديد من الناس يعرفون ما عليهم القيام به أثناء العمل حيث يعرفون واجباتهم ومهامهم وكذلك أدوارهم في الحياة الوظيفية، لكنهم حينما يتقاعدون ويحصلون على مساحة أكبر من الحرية والوقت، يجدون أنفسهم في ضياع.
بالنسبة لي، أرى أن التقاعد مرحلة مهمة لأنها مرتبطة ومُكملة لحياة الإنسان الوظيفية بسبب التأثيرات المعرفية والسلوكية والاقتصادية للوظيفة على نمط حياته خلال مرحلة التقاعد. فبعد رحلة كفاح امتدت لعشرات السنين لابد لنا من ترتيب أمورنا بطريقة متوازنة تحفظ لنا كياناتنا وشخصياتنا بعيداً عن قيود العمل وقواعد الوظيفة العامة، وكذلك استمرارية تفاعلنا مع المجتمع الذي نعيش فيه. كما أنه وقبل كل شيئ، لابد من الرضى بما قسمه الله لنا، فانتقاد النفس ولومها على ما فات سيخلف صراعاً نفسياً في دواخلنا سنظل نعاني منه طويلاً.
يجب أن لا نترك قضايانا النفسية والاجتماعية والصحية للصدفة بل علينا التعامل والتعاطي مع مرحلة التقاعد كفرصة ذهبية لنعيش مجدداً والقيام بأعمال ونشاطات لم يكن متاح لنا القيام بها من قبل وذلك من خلال البحث عن ذاتنا لنكون كما نريد ونعيش كما نريد. فبعد مرحلة الكد والكفاح لا بد من مرحلة الراحة والطُمأنينة حيث نستطيع أن نرى الحياة بمنظار الحقيقة، ففي هذه المرحلة العُمرية يزداد الفهم وتظهر الحكمة، وهو الوقت المناسب للبحث عن السعادة وتحقيق الأحلام التي ما زال بالإمكان تحقيقها.
يجب أن نضع في عين الإعتبار أن تقدير الذات لا يمكن قياسه فقط بفترة العمل الماضية وما تم تحقيقه خلالها من نجاحات، بل يقاس بمدى مساهمتنا الاجتماعية من خلال أُسرنا التي كوناها وحافظنا على كيانها واستمرارها رغم كل العقبات والصعاب، اضافة إلى الشعور الحقيقي باحترام الذات واحترام الأخرين لشخصك. السعادة حالة نفسية تُبعد عنا الكئابة فتجعلنا نعيش ونفكر بطريقة إيجابية وعقلانية بعيداً عن الصراعات النفسية وما تجره من مشاكل وامراض.
نمط الحياة التي نعيشها والنشاطات التي نمارسها هي المعيار الحقيقي لقياس السعادة. اليوم بتُ أستمتع بها أكثر من آي وقت مضى لأنني تحررت من قيود العمل والوظيفة التي كانت تحصر نشاطي اليومي وتحدد برامجه. بدأت بالتكيف والتأقلم على اسلوب جديد في الحياة والتعامل مع الأمور بطريقة أكثر هدوءً وروية، أحياناً أشعر أني ولدتُ من جديد خاصةً وأني اكتشفت أن لدي قدرات ومهارات لم اعرها في الماضي أي اهتمام، فبدأت أُطلق لها العنان لإخراج ما في جُعبتي.
تغيرت نظرتي للحياة فأشعر أني أصبحت أكثر نضوجاً وأكثر فهماً وتقبلاً لأمور وظروف المجتمع والأسرار الخفية للحياة التي كنت تائهاً عنها وسط زحمة العمل وروتين الحياة الوظيفية. أصبحت أنظر إلى الناس من حولي فأشعر بأحاسيسهم ومشاكلهم ومعاناتهم، وبدأت أفهم أن دوافع البشر وسلوكهم تكمن خلفها إحتياجات، ومتى ما تم اشباع هذه الاحتياجات فإنهم بلا شك سينعمون بالهدوء ويشعرون بالرضى.
وخلاصة القول أنه يجب ألا نرغب بالنجاح ونسعى إليه في أي أمر لمجرد أن بعض الأقارب والأصدقاء نجحوا فيه من أجل إثبات أننا لا نقل عنهم ذكاءً ومقدرة، لأنه سرعان ما سنتراجع عنه عند أول صعوبة تواجهنا، فهو ليس من أولوياتنا وأهدافنا التي ننشدها، بل يجب التركيز على إهتماماتنا وهواياتنا التي تُشعرنا بالسعادة والرضى.