القيادات البيروقراطية ومتطلبات رؤية 2030 … د. محمد بن عبدالرحمن المقرن
تُشكل البيروقراطية في وضعها الحالي تحدياً وعائقاً أمام تنفيذ برامج التحول الوطني والرؤية الجديدة، فهي بالإضافة إلى ضخامة أعداد الموظفين، مُتخمة أيضاً بالكثير من الأنظمة واللوائح والتعليمات المتراكمة منذ أجيال، وبالتالي فهي تحتاج إلى تحديثات تتوافق مع المُتغيرات الحاليّة. فالمفاهيم والسلوكيات البيروقراطية السائدة تتصف بالجمود وعدم المرونة، والتقيد الحرفي بنصوص القوانين لشرعنة بعض التصرفات الإدارية والهروب من تحمل تبعات المسؤولية الناتجة عنها.
لذَلك، هناك حاجة ماسة لوجود نوعية من القيادات الإدارية المؤهلة علمياً ومهنياً تستطيع التعامل والتعاطي مع المتغيرات المختلفة والنهوض بالعمل الإداري الذي يرتبط نجاحه بمدى قدرة قيادة المؤسسة او الجهاز الإداري على تحمل المسؤولية وامتلاكها لأفكار ابداعية، وتكوين فريق عمل متجانس، اضافة لتبنيها أساليب إدارية مرنة قادرة على التكيف والتعامل مع المُتغيرات والمستجدات الطارئة.
من أجل تطبيق رؤية 2030 وما ورد فيها من توجهات وتطلعات لبناء اقتصاد قوي ومتعدد الأركان، أقر مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية إطار حوكمة متكامل لترجمة هذه الرؤية إلى برامج تنفيذية وآليات عمل خاصة بكلٍ منها، فتمّ إعادة هيكلة العديد من الوزارات والهيئات الحكومية من خلال تفكيك او دمج بعض هياكلها التنظيمية وإنشاء أُخرى جديدة، واعادة توزيع الصلاحيات والمسؤوليات لتجهيزها وتهيئتها للمشاركة في تنفيذ البرامج والمشاريع الخاصة بالرؤية بما يتوافق ومتطلبات هذه المرحلة ويحقق لها الكفاءة والفاعلية في ممارسة مهامها واختصاصاتها الوظيفية.
لكن ما مدى قدرة القيادات البيروقراطية المتواجدة في العديد من أجهزتنا الإدارية على القيام بهذا الدور وأداء هذه المهمة؟
حسب ما تضمنه برنامج التحول الوطني فإن حجم المسؤوليات المُلقاة على عاتق الهيئات والأجهزة الإدارية ضخم جداً، فدورها لا يقتصر على متابعة الأداء والتنفيذ فقط، بل عليها أن تتولى رسم السياسات العامة وتحديد الأهداف وإتخاذا القرارات وإدارة المواقف المتباينة في ظل بيئة وظروف مُتغيّرة، وهو ما يجعلها تواجه العديد من التحدّيات التي تتباين وتختلف تبعاً لطبيعة النشاط الذي يُمارسه الجهاز الإداري. وبما أن القيادات الإدارية هي العنصر الذي يُوجه ويُنسق ويرسم المسارات ويتخذ القرارات ويُصدر الأوامر والتعليمات، فإن أية جوانب قصور في عمل هذه القيادات سيؤثر، بلا شك، سلباً على كفاءة وفاعلية الجهاز الإداري بأكمله.
نعم، لقد تم إختيار وتعيين عدد من القيادات الشابة التي تملك المهارة والمعرفة والرؤية المستقبلية الواضحة، كما تم إعطاء الصلاحيات للوزارات والهيئات الحكومية لاستقطاب أصحاب الكفاءات والخبرات والتعاقد معهم للإستفادة منهم، لكنه لا يزال عدد محدود أمام المئات، بل الألاف، من القيادات البيروقراطية المترهلة التي تحتل معظم المناصب الإدارية والتنفيذية ومراكز القرار، خصوصاً تلك القيادات العاملة او المتواجدة في مستوى الإدارة الوسطى، فالعديد منهم لا يملك التأهيل او المعرفة التي تُمكنه من مُمارسة مهامه وواجباته الوظيفية بكفاءة واقتدار، اعداد كبيرة منهم لم يحصلوا على وظائفهم ومناصبهم القيادية بسبب مؤهلاتهم التعليمية او مهاراتهم وقدراتهم الذاتية، بل من خلال نظام الترقية الذي يعتمد على عدد سنوات الخدمة، او عن طريق الترشيح حيث تلعب العلاقات الشخصية دوراً أساسياً ومؤثراً في عملية إختيار المرشح.
بسبب افتقادها للمهارة والمعرفة والقدرة على الإبداع، تؤدي هذه القيادات أدوارها الوظيفية بطريقة روتينية لا تتوافق ومتطلبات هذه المرحلة، فعادةً ما تلجأ هذه القيادات لإستخدام الأدوات والأساليب البيروقراطية لتضخيم الأمور، وتُعقيد الأنظمة، وتطويل مسار العمليات والأنشطة التنفيذية، وتعمد في الكثير من الأحيان لعدم اعطاء الفُرصة للمشاركة اوالتجديد والإبتكار لأنها عاجزة وغير قادرة على تحقيق نتائج إيجابية، فما بالك في المواقع والإدارات التي تستخدم أعداداً من الأخصائيين والتقنيين، مثل إدارات وأقسام البحوث والتخطيط والمعلومات.
كثيراً ما يستخدم هؤلاء البيروقراطيون صلاحياتهم الإدارية والإجرائية لإيقاف او تعطيل العديد من البرامج والمشاريع، فلديهم قدرة فائقة في استرجاع الذاكرة والعودة للماضي ونبش الملفات القديمة لإستخراج ما يناسبهم من وثائق تضم أوامر وتعليمات وأحكام تجاوزها الزمن، والاستعانة بها لفرض أفكارهم وتوجهاتهم على منهجية العمل وآساليب الأداء في الهيئات والأجهزة الإدارية التي ينتمون إليها.
تحقيق طموحاتنا وأهدافنا التنموية التي ننشدها لا يمكن أن يتم في ضوء التفكير او الاسلوب البيروقراطي السائد، نحن بحاجة لإختيار قيادات إدارية شابة واعية لدورها ولما هو مطلوب منها، ولديها كذلك المعرفة والمهارة التي تُمكنها من القيام بواجباتها الوظيفية وتحمُل مسؤولياتها وترجمة أفكارها إلى واقع ملموس، اضافةً لإمتلاكها الرؤية والطموح لإجراء نقلة نوعية في العمل الإداري. فمؤسساتنا وأجهزتنا الإدارية تحتاج لأن تُدار بعقليات وأفكار جديدة تملك المرونة اللازمة في تعاملاتها ضمن التوجه المرسوم والمحدد لها في رؤية 2030.
تزداد أهمية إختيار القيادات الإدارية نظراً لأهمية الدور المنوط بها، خصوصاً في هذه المرحلة التي تتسم بتعدد وتنوع المشاريع والبرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الطموحة ومساراتها المتعدّدة، فمهما كانت الآلية التي بموجبها يتم إختيار هذه القيادات، لابد أن يظل اسلوب التقييم معياراً أساسياً لا يُمكن إغفاله في عملية الإختيار.
كما أن ربط الترقيات والعلاوات والحوافز بمستوى الأداء الوظيفي يساعد على زيادة الإنتاجية والمساهمة في رفع كفاء العمل الإداري وتحرير الأجهزة الحكومية من الفكر البيروقراطي الذي أعاق العديد من خطط التطوير والإصلاح خلال العقود الماضية.
dmmugren@hotmail.com