قراءة نقدية في رواية (( كانت مطمئنة )) لحسين القحطاني .. د. نورة احمد الملحم
الروائي الصحفي حسين القحطاني: عرفه القارئ قبل سنوات طويلة صحفيًا نشطًا قدم الأخبار و التحليلات السياسية، أصدر روايته (كانت مطمئنة) عن دار الجداول للنشر و التوزيع في طبعتها الأولى عام 2011م ، و هي باكورة إنتاجه، و قد حصلت على جائزة جازان للإبداع الثقافي.
عنون الكاتب روايته بعتبة تقودنا إلى الآية القرآنية: “و ضرب اللهُ مثلاً قريةً كانت آمنة مطمئنةً يأتيها رزقها من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون” [النحل:112] ، ذلك التناص الحاضر على مستوى العنوان بدا حاضرًا و متشظيًا أيضًا على مستوى أحداث الرواية و شخصياتها.
برع القحطاني في رصد أعماق القرية الجنوبية بجدارة، فهو ابنها البار الذي أتقن رسم بيئته الجازانية بريشةٍ مدادها البساطة و السلاسة .
و قد بدأت الرواية تعرض لنا صورة من صور البساطة و التلاحم و الحميمية بين نسوة قرية من قرى جازان ، و إن كانت مشاعر الخوف و الرهبة تكتنف تلك الصورة ، فالنسوة و الأطفال قد تسمروا أمام العجوز (صالحة) ليستمعوا إلى ما تلقيه من قصص تنبئية حول المستقبل المخيف الذي يحدق بقريتهم في أيام مشؤومة لا تبقي و لا تذر. فبدت صالحة قائدةً تتحكم في مشاعر و أفكار الجميع لتغرس في عقولهم ترسبات الماضي الخرافية ، و الجميع يستقبل ما تقول برحابة صدر في ظل غياب الوعي و سيطرة الجهل. و تفيض القرية الجازانية بأخلاق العرب الأصيلة كالحميَّة و الشهامة و العفة.
و قد كان البطل الفعلي في هذه الرواية هو المكان فقد حرص الكاتب على أن يلتقط لنا بعدسته ومضات تجسد الخصوصية التراثية والمكانية في قريته الجنوبية الحالمة الوادعة من خلال الكثير من المفردات المرتبطة بالبيئة الجنوبية ؛ كـ: الكرتة و الشمَّة و شجرة الرين و جبل الدقم و الشِّبريَّة و القطاعة و رقصة العزاوي و الوزارة والمسحة و غيرها.
أما عن الزمان الذي دارت فيه أحداث الرواية فهو بدايات العهد السعودي و ما حمله من تحولات جوهرية إلى ساحة العلم و النفط و المدنية في حياة الشعب السعودي كافة.
و هي تتنامى زمنيًا و تتصاعد من مقطع إلى آخر بكل سلاسة و خفاء ، فلا يشعر القارئ إلا وهو في ختامها ، و قد تبدلت القرية من حال إلى حال.
أما عن الشخصيات فقد بدت ثابتة مسطحة يرمز أغلبها إلى رمز معين، فالجدة صالحة رمز التراث بأصالته و شموخه و أساطيره ،
و جبران رمز الشر و الظلم ، ومريم رمز الوفاء و العفة و تعويذة الحب الراسخ.
و لقد قامت الرواية على ثنائية المفارقات في كثير من الأحداث و الصراعات؛ فجبران الذي يمثل الشر المفرط يبدو متوحشًا مع أختيه اللاتي تحت إمرته، و في ذات الوقت يكون منفتحًا متسامحًا مع الجميع، فضلاً عن تحوله إلى حمل وديع أمام مريم في صورة متناقضة تحمل مفارقاتٍ مؤلمة.
كما خُدعنا في شخصية الشيخ جبران أول الرواية ، فاحترمنا هيبته و مسوح العابد الذي أتقن ارتداؤه ، ثم لا نلبث أن نصدم بوحشيته و جبروته تجاه أخواته الخمس اللاتي عدَّهنَّ جزءًا من تركة والده ، فسلبهنَّ حقوقهن ، مبقيًا لهن مربط بغلته رمز القسوة و الجفاء.
و إذا تأملنا اللغة الروائية وجدناها بدت سلسة خالية من الغموض تخللتها بعض الكلمات العامية التي منحتها لونًا من ألوان الخصوصية.
و قد أتقن الكاتب تصوير لمة الأطفال حول البئر في لوحة تخلب الألباب، فأشعرنا بأن خلايا الجمادات تنبض حياةً كقلوب البشر ، فيتردد في أصدائها (مرحبًا ألف) أو (مرحبًا إلف) يا من تبادلنا عشق الجنوب ، بلغة تعبيرية بسيطة تصور فجاج الحياة الجنوبية في أبسط تشكلاتها و أكثرها عراقة.
ختامًا ، (كانت مطمئنة) روايةٌ تكتنف أصالةً و عراقةً ، في لوحةٍ ثريةٍ تفوح من جنباتها رائحة الجنوب.
no.1978.no@hotmail.com